فصل: ذكر وفاة تميم بن المعز صاحب إفريقية وولاية ابنه يحيى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وفاة تميم بن المعز صاحب إفريقية وولاية ابنه يحيى:

في هذه السنة، في رجب، توفي تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان شهماً، شجاعاً، ذكياً، له معرفة حسنة، وكان حليماً، كثير العفو عن الجرائم العظيمة، وله شعر حسن، فمنه أنه وقعت حرب بين طائفتين من العرب، وهم عدي، ورياح، فقتل رجل من رياح، ثم اصطلحوا، وأهدروا دمه، وكان صلحهم مما يضر به وببلاده، فقال أبياتاً يحرض على الطلب بدمه، وهي:
متى كانت دماؤكم تطل ** أما فيكم بثأر مستقل

أغانم ثم سالم إن فشلتم، ** فما كانت أوائلكم تذل

وتمتم عن طلاب الثأر، حتى ** كأن العز فيكم مضمحل

وما كسرتم فيه العوالي، ** ولا بيض تفل، ولا تسل

فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميراً من عدي، واشتد بينهم القتال، وكثرت القتلى، حتى أخرجوا بني عدي من إفريقية.
قيل: إنه اشترى جارية بثمن كثير، فبلغه أن مولاها الذي باعها ذهب عقله وأسف على فراقها، فأحضره تميم إلى بين يديه، وأرسل الجارية إلى داره، ومعها من الكسوات، والأواني الفضة، وغيرها، ومن الطيب، وغيره، شيء كثير، ثم أمر مولاها بالانصراف، وهو لا يعلم بذلك، فلما وصل إلى داره ورآها على تلك الحال وقع مغشياً عليه لكثرة سروره، ثم أفاق. فلما كان الغد أخذ الثمن، وجميع ما كان معها، وحمله إلى دار تميم، فانتهره، وأمره بإعادة جميع ذلك إلى داره.
وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقاً سنية ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلا يظلموا الناس، فكان بالقيروان تاجر له مال وثروة، فذكر في بعض الأيام التجار تميماً، ودعوا له، وذلك التاجر حاضر، فترحم على أبيه المعز، ولم يذكره، فرفع ذلك إلى تميم، فأحضره إلى قصره وسأله: هل ظلمتك؟ فقال: لا! قال: فهل ظلمك بعض أصحابي؟ قال: لا! قال: فلم أطلقت لسانك أمس بذمي؟ فسكت، فقال: لولا أن يقال شره في ماله لقتلتك، ثم أمر به فصفع في حضرته قليلاً، ثم أطلقه فخرج، وأصحابه ينتظرونه، فسألوه عن خبره، فقال: أسرار الملوك لا تذاع، فصارت بإفريقية مثلاً.
ولما توفي كان عمره تسعاً وسبعين سنة، وكانت ولايته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وخلف من الذكور ما يزيد على مائة، ومن البنات ستين بنتاً، ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم، وكانت ولادته بالمهدية لأربع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكان عمره حين ولي ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوماً، ولما ولي فرق أموالاً جزيلة، وأحسن السيرة في الرعية.

.ذكر ملك يحيى قلعة قليبية:

لما ملك يحيى بن تميم بعد أبيه، جرد عسكراً كثيفاً إلى قلعة قليبية، وهي من أحصن قلاع إفريقية، فنزل عليها، وحصرها حصاراً شديداً، ولم يبرح حتى فتحها وحصنها، وكان أبوه تميم قد رام فتحها، فلم يقدر على ذلك، ولم يزل مظفراً، منصوراً، لم يهزم له جيش.

.ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفراً:

في هذه السنة، في شهر رمضان، ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس الشام، إلى بغداد، قاصداً باب السلطان محمد، مستنفراً على الفرنج، طالباً تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس، على ما ذكرناه، ضاقت عليه الأقوات وقلت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمن الله عليهم، سنة خمسمائة، بميرة في البحر من جزيرة قبرس، وأنطاكية، وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد، بعد أن كانوا استسلموا.
فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب، وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد براً وبحراً، وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفاً، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه، بحيث أن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك، وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له، والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه، وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرهم.
وكان ابن عمار قد استصحب معه من الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة، والأشياء الغريبة، والخيل الرائقة، فلما وصلها لقيه عسكرها، وطغتكين أتابك، وخيم على ظاهر البلد، وسأله طغتكين الدخول إليه، فدخل يوماً واحداً إلى الطعام، وأدخله حمامه، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه.
فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها، فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان، فقال له من بها من خواص السلطان: قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان، فلما دخل على السلطان أجلسه، وأكرمه، وأقبل عليه بحديثه.
وسير الخليفة خواصه، وجماعة أرباب المناصب، فلقوه، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة، وكذلك أيضاً فعل السلطان، وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله، وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر.
ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته، وسأله السلطان عن حاله، وما يعانيه في مجاهدة الكفار، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله، وقوة عدوه، وطول حصره، وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وحضر دار الخلافة، وذكر أيضاً نحواً مما ذكره عند السلطان، وحمل هدية جميلة نفيسة، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوال، فأحضره عنده بالنهروان، وقد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو، ليمضوا معه إلى الشام، وخلع عليه السلطان خلعاً نفيسة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وودعه، وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعاً، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما أهل طرابلس فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه والياً يكون عندهم، ومعه الميرة في البحر، فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً، ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه، وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في شعبان، أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس، ودار البيع، والاجتيازات، وغير ذلك مما يناسبه بالعراق، وكتبت به الألواح، وجعلت في الأسواق.
وفيها، في شهر رمضان، ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداد.
وفيه أيضاً عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان، وشرط عليه شروطاً منها: العدل، وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحداً من أهل الذمة.
وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق، وكان هرب عند قتل إياز، فلما قدم أكرمه السلطان، وأقطعه رحبة مالك بن طوق.
وفيها، سابع شوال، خرج السلطان إلى ظاهر بغداد، عازماً على العود إلى أصبهان، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.
وفيها، في ذي الحجة، احترقت خرابة ابن جردة، فهلك فيها كثير من الناس، وأما الأمتعة، والأموال، وأثاث البيوت، فهلك ما لا حد عليه، وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز، وكان بها جماعة من اليهود، فلم ينقلوا شيئاً لتمسكهم بسبتهم، وكان بعض أهله قد عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة، على عادتهم في السبت الذي يلي العيد، فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت، وأهلهم قد احترقوا، وأموالهم قد هلكت.
ثم تبع ذلك حريق في عدة أماكن منها: درب القيار، وقراح ابن رزين، فارتاع الناس لذلك، وبطلوا معايشتهم، وأقاموا ليلاً ونهاراً يحرسون بيوتهم في الدروب، وعلى السطوح، وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار، فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت رجلاً، فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سراً، وأعدت له ما يسرقه إذا خرج، ويأخذها هي أيضاً معه، فلما أخذها طرحا النار في الدار، فخرجا، فأظهر الله عليهما، وعجل الفضيحة لهما، فأخذا وحبسا.
وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها، وأمر ببناء حصن عندها، على تل المعشوقة، وأقام شهراً محاصراً لها، فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار، فأخذها ورحل عن المدينة، وقصد مدينة صيدا، فحصرها براً وبحراً ونصب عليها البرج الخشب، ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها، والحماية لمن فيها، فقاتلهم أسطول الفرنج، فظهر المسلمون عليهم، فاتصل الفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا، فرحلوا عنها بغير فائدة.
وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب، فبقي ليالي كثيرة ثم غاب.
توفي في هذه السنة، في شعبان، إبراهيم بن مياس بن مهدي أبو إسحاق القشيري الدمشقي، سمع الحديث الكثير من الخطيب البغدادي وغيره.
وتوفي في ذي القعدة أبو سعيد إسماعيل بن عمرو بن محمد النيسابوري المحدث، كان يقرأ الحديث للغرباء، قرأ صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي عشرين مرة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وخمسمائة:

.ذكر استيلاء مودود على الموصل:

في هذه السنة، في صفر، استولى مودود، والعسكر الذي أرسله السلطان معه، على مدينة الموصل، وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو، وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها، وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان، وهلاكهما على يده، وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير، والعدة التامة، والأموال الكثيرة، وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه، فاستولى على كثير من البلاد والأموال.
وكان سبب أخذ البلاد منه: أنه لما استولى عليها، وعلى الأموال الكثيرة منها، لم يحمل إلى السلطان منها شيئاً، فلما وصل السلطان إلى بغداد، لقصد بلاد سيف الدولة صدقة، أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر، وكرر الرسل إليه، فلم يحضر، وغالط في الانحدار إليه، وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به، ولم يقنع بذلك، حتى كاتب صدقة، وأظهر له أنه معه، ومساعده على حرب السلطان، وأطمعه في الخلاف والعصيان.
فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، وقتله، كما ذكرناه، تقدم إلى الأمراء بني برسق، وسكمان القطبي، ومودود نب التونتكين، وآقسنقر البرسقي، ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبي الهيجاء، صاحب إربل، بالمسير إلى الموصل، وبلاد جاولي، وأخذها منه، فتوجهوا نحو الموصل، فوجدوا جاولي عاصياً قد شيد سور الموصل، وأحكم ما بناه جكرمش، وأعد الميرة والأقوات والآلات، واستظهر على الأعيان بالموصل، فحبسهم، وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفاً، ونادى: متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما، وخرج عن البلد، ونهب السواد.
وترك بالبلد زوجته ابنة برسق، وأسكنها القلعة، ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك، سوى غيرهم، وسوى الرجالة، ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة، وصادرت زوجته من بقي بالبلد، وعسفت نساء الخارجين عنه، وبالغت في الاحتراز عليهم، فأوحشهم ذلك، ودعاهم إلى الانحراف عنها، وقوتل أهل البلد قتالاً متتابعاً، فتمادى الحصار بأهلها من خارج، والظلم من داخل إلى آخر المحرم، والجند بها يمنعون عامياً من القرب من السور.
فلما طال الأمر على الناس، اتفق نفر من الجصاصين، ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي، على تسليم البلد، وتحالفوا على التساعد، وأتوا وقت صلاة الجمعة، والناس بالجامع، وصعدوا برجاً، وأغلقوا أبوابه، وقتلوا من به من الجند، وكانوا نياماً، فلم يشعروا بشيء، حتى قتلوا، وأخذوا سلاحهم، وألقوهم إلى الأرض، وملكوا برجاً آخر.
ووقعت الصيحة، وقصدهم مائتا فارس من العسكر، ورموهم بالنشاب، وهم يقاتلون، وينادون بشعار السلطان، فزحف عسكر السلطان إليهم، ودخلوا البلد من ناحيتهم، وملكوه، ودخله الأمير مودود، ونودي بالسكون والأمن، وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام، وراسلت الأمير مودود في أن يفرج لها عن طريقها، وأن يحلف لها على الصيانة والحراسة، فحلف، وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق، ومعها أموالها وما استولت عليه، وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها.

.ذكر حال جاولي مدة الحصار:

وأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل، وحصرها، سار عنها، وأخذ معه القمص، صاحب الرها، الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش، وقد ذكرنا ذلك، وسار إلى نصيبين، وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق، وراسله، وسأله الاجتماع به، واستدعاه إلى معاضدته، وأن يكونا يداً واحدة، وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجمعهما على الاحتماء منه. فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك، ورحل عن نصيبين، ورتب بها ولده، وأمره بحفظهما من جاولي، وأن يقاتله إن قصده، وسار إلى ماردين.
فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين، وقصد دارا، وأرسل إلى إيلغازي ثانياً في المعاني، وسار بعد الرسول، فبينما رسوله عند إيلغازي بمادرين، لم يشعر إلا وجاولي معه في القلعة وحده، وقصد أن يتألفه ويستميله، فلما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه، ولما رأى جاولي محسناً للظن فيه، غير مستشعر منه، لم يجد إلى دفعه سبيلاً، فنزل معه، وعسكرا بظاهر نصيبين، وسارا منها إلى سنجار، وحاصراها مدة، فلم يجبهما صاحبها إلى صلح، فتركاه وسارا نحو الرحبة، وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة، ويبطن الخلاف، وينتظر فرصة لينصرف عنه، فلما وصلا إلى عرابان، من الخابور، هرب إيلغازي ليلاً وقصد نصيبين.

.ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجي:

لما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة، فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي، الذي كان أسيراً بالموصل، وأخذه معه، وسمه بردويل، وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما، وبقي في الحبس إلى الآن، وبذل الأموال الكثيرة، فلم يطلق، فلما كان الآن أطلقه جاولي، وخلع عليه، وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين، وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال، وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه، وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله.
فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر، وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك، حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيره، وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة، ففدى نفسه بعشرين ألف دينار، فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص، وأطلق القمص، وسار إلى أنطاكية، وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه، وأخذ عوضه أخا زوجته، وأخا زوجة القمص، وسيره إلى القمص ليقوى به، وليحثه على إطلاق الأسرى، وإنفاذ المال وما ضمنه، فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها، وكان معه جماعة من أصحاب جاولي، فأنكروا عليه ذلك، ونسبوه إلى الغدر، فقال: إن هذه المدينة ليست لكم.

.ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكية:

لما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار، وخيلاً، وسلاحاً، وثياباً، وغيره ذلك، وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر، فخاطبه الآن في ردها عليه، فلم يفعل، فخرج من عنده إلى تل باشر، فلما قدم عليه جوسلين، وقد أطلقه جاولي، سره ذلك، وفرح به.
وسار إليهما طنكري، صاحب أنطاكية، بعساكره ليحاربهما، قبل أن يقوى أمرهما، ويجمعا عسكراً، ويلتحق بهما جاولي وينجدهما، فكانوا يقتتلون، فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا.
وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيراً كلهم من سواد حلب، وكساهم وسيرهم.
وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها، فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري، صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل، وهو رجل أرمني، ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم، وهو صاحب رعبان، وكيسوم، وغيرهما من القلاع، شمالي حلب، فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين، وألفي راجل، فقصدهم طنكري، فتنازعوا في أمر الرها، فتوسط بينهم البطرك الذي لهم، وهو عندهم كالإمام إلى للمسلمين، لا يخالف أمره، وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين: أن بيمند خال طنكري قال له، لما أراد ركوب البحر، والعود إلى بلاده، ليعيد الرها إلى القمص، إذا خلص من الأسر، فأعادها عليه طنكري تاسع صفر، وعبر القمص الفرات، ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى، فأطلق في طريقه خلقاً كثيراً من الأسرى من حران وغيرها.
وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفى، فعمر أصحاب جاولي مساجدهم، وكان رئيس سروج مسلماً قد ارتد، فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولاً شنيعاً، فضربوه، وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع، فذكر ذلك للقمص، فقال: هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين، فقتله.

.ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمص:

لما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة، فأتاه أبو النجم بدران، وأبو كامل منصور، ابنا سيف الدولة صدقة، وكانا، بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر، عند سالم بن مالك، فتعاهدوا على امساعدة والمعاضدة، ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة، وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان. فوصل إليهم، وهم على هذا العزم، أصبهبذ صباوة، وكان قد قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه، فاجتمع بجاولي، وأشار عليه أن يقصد الشام، فإن بلاده خالية من الأجناد، والفرنج قد استولوا على كثير منها، وعرفه أنه متى قصد العراق، والسلطان بها، أو قريباً منها، لم يأمن شراً يصل إليه. فقبل قوله، وأصعد عن الرحبة، فوصل إليه رسل سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، يستغيث به من بني نمير، وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم، فوقب جوشن النميري، ومعه جماعة من بني نمير، فقتل علياً وملك الرقة.
فبلغ ذلك الملك رضوان، فسار من حلب إلى صفين، فصادف تسعين رجلاً من الفرنج معهم مال من فدية القمص، صاحب الرها، قد سيره إلى جاولي، فأخذه، وأسر عدداً منهم، وأتى الرقة، فصالحه بنو نمير على مال، فرحل عنهم إلى حلب، فاستنجد سالم بن مالك جاولي، وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها، ووعده بما يحتاج إليه. فقصد الرقة، وحصرها سبعين يوماً، فضمن له بنو نمير مالاً وخيلاً، فأرسل إلى سالم: إنني في أمر أهم من هذا، وأنا بإزاء عدو، ويجب التشاغل به دون غيره، وأنا عازم على الانحدار إلى العراق، فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك، ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير.
ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وكان أبوه أتابك السلطان محمد، فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، واختص به، فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي، ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار، فحضر عند جاولي، وأمر بتسليم البلاد، وطيب قلبه عن السلطان، وضمن الجميل، إذا سلم البلاد، وأظهر الطاعة والعبودية، فقال جاولي: أنا مملوك السلطان، وفي طاعته، وحمل إليه مالاً وثياباً لها مقدار جليل، وقال له: سر إلى الموصل ورحّل العسكر عنها، فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة، وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها، ففعل حسين ذلك، وسار ومعه صاحب جاولي، فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل، وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل، فكلهم أجاب، إلا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلا بأمر السلطان، وقبض على صاحب جاولي، وأقام على الموصل، حتى فتحها كما ذكرناه.
وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان، فأحسن النيابة عن جاولي عنده، وسار جاولي إلى مدينة بالس، فوصلها ثالث عشر صفر، فاحتمى أهلها منه، وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان، صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام، وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها، فوقع على النقابين، فقتل منهم جماعة، وملك البلد، وصلب جماعة من أعيانه عند النقب، وأحضر القاضي محمد بن بد العزيز بن إلياس فقتله، وكان فقيهاً صالحاً، ونهب البلد، وأخذ منه مالاً كثيراً.

.ذكر الحرب بين جاولي والفرنج:

وفي هذه السنة، في صفر، كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية.
وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري، صاحب أنطاكية، يعرفه ما هو جاولي عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقي للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة، والاتفاق على منعه. فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس، فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص، صاحب الرها، يستدعيه إلى مساعدته، وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة، فسار إلى جاولي فلحق به، وهو على منبج، فوصل الخبر إليه، وعلى هذه الحال، بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان، وملكوا خزائنه وأمواله، فاشتد ذلك عليه، وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر، وبكتاش النهاوندي، وبقي جاولي في ألف فارس، وانضم إليه خلق من المطوعة، فنزل بتل باشر.
وقاربهم طنكري، وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج، وستمائة من أصحاب الملك رضوان، سوى الرجالة، فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان، والأمير التونتاش الابري، وغيرهما، وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة، وأصبهبذ صباوة، وسنقر دراز، وفي القلب القمص، صاحب الرها، واشتد القتال، فأزاح طنكري القلب عن موضعه، وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب أنطاكية، فقتلت منهم خلقاً كثيراً، ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية، فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص، وجوسلين، وغيرهما من الفرنج، فركبوها وانهزموا، فمضى جاولي وراءهم ليردهم، فلم يرجعوا، وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه، فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمته نفسه، وخاف من المقام، فانهزم، وانهزم باقي عسكره.
فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام، وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر، وأما جاولي فقصد الرحبة، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم، وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين، ففعلا معهم الجميل، وداويا الجرحى، وكسوا العراة، وسيراهم إلى بلادهم.